Monday, May 21, 2018

كيف حاولت مصر انقاذ سقوط الأندلس؟

TerritorioDeAlAndalus-mapa

نهاية القرن الثاني عشر الميلادي بدأت شمس الأندلس تنزلق نحو الغروب، بانقسام ولاياتها وتنازع امراءها على السلطة، في حين أخذ الأسبان بكل اسباب النصر بتجهيز جيوش قوية واتحاد ممالكهم ودويلاتهم شوية بشوية وانصهارها في كيان واحد.. ولما اجهز الأسبان على مملكة غرناطة اخر معاقل المسلمين في الأندلس في 1489م، ارسل ملكها رسائل استغاثة لكل ملوك العالم الأسلامي في الوقت دا وكان منهم الأشرف قايتباي في مصر.. يا ترى  عمل ايه سلطان مصر لإنقاذ الأندلس؟.. دا موضوع تدوينة اليوم وهانتكلم زي ماحنا متعودين بالتفصيل شوية ونجيب الموضوع من أوله.. خليكو معانا..
780 عاما تقريبا قضاها المسلمون في شبة جزيرة ايبريا (اسبانيا والبرتغال) بدأت عام 710م بدخول الأمير طارق بن زياد والجيش الأموي، وانتهت بخروج بني الأحمر من غرناطة في 1492م، خلال الفترة دي كان ما يعرف في التاريخ الأسباني بـ “حروب الأسترداد” La Reconquista لم ينقطع لحظة!.. بدأها (بلاجيو) وهو أحد النبلاء القوطيين بجيش صغير انتصر به على جيش الأمويين شمال ايبريا وأنشأ امارة صغيرة أسماها أستورياس، ليأتي بعده الملك ألفونسو الثالث (عام 906م) ويعد مملكته وريثا شرعيا لمملكة القوط الغربيين اللي كانت بتحكم أسبانيا قبل ماييجي العرب، وبدأ يجهز مزيد من الجيوش لمحاربة المسلمين و”استرداد” ما دعاه بمملكته!.. ودا شجع بعض النبلاء الأوروبيين انهم يوجدوا لنفسهم موضع قدم على حساب الممالك الأندلسية المنقسمة بنهاية القرن التاسع الميلادي، زي ممالك قشتالة وأراجون وليون واقليم الباسك والبرتغال، وسرعان ما أعلن اتحاد مملكة قشتالة وليون تحت تاج واحد وفرضوا الحصار على توليدو (طليطلة) عام 1084م لتسقط في ايديهم بعد عام ويبدأ المسلمون في الأنحسار في جنوب ايبريا، وتلاها سقوط مزيد من المدن زي قرطبة 1236م واشبيلية 1248م وظلت غرناطة صامدة لفترة من الزمن، حتى تم اتحاد مملكة قشتالة مع مملكة أراجون بقيادة الملك فيردناندو الثاني وزوجته ايزابيلا عام 1485م وفرضوا الحصار على بني الأحمر في غرناطة عام 1491م .
وأرسل سلاطين بنو مرين ببلاد المغرب الأقصى جيوشا عديدة لأنقاذ اهل غرناطة نفذت الى طليطلة ومدريد ولكنها لم تحقق انتصارات ساحقة على القشتاليين، وكانت تكتفي بطردهم دون تعقبهم في كثير من المعارك، وتدخل المرابطون والموحدون ايضا لأنقاذ اهل غرناطة واستطاعوا تحقيق انتصارات في الزلاقة 1086م والأرك 1195م أمدت من عمر المسلمين في الأندلس أكثر من مائتي عام. وكذلك فعل ملوك الحفصيين في تونس، وأثناء حصار اشبيلية عام 1247م انشغل أبو زكريا بن أبي حفص بأموره الداخلية واكتفى بارسال سفينة ممتلئة بالسلاح والمال والمؤن لأهل اشبيلية  للأسف استولي عليها  القراصنة الأسبان قبل وصولها، فسقطت المدينة في العام التالي!.. أيضا لم تكن الأحداث بعيدة عن دولة بني زيان الأمازيغ في المغرب الأقصى، فأرسل أبو حمو الزياني مؤن ومال وعتاد وخيل مكنت الغرناطيين من الصمود في وجه ضربات الأسبان لفترة اطول، غير ان الزيانين والوطاسية والمرينين والحفصيين كانوا يعيشون اوضاعا داخلية سيئة في ذلك الوقت لم تمكنهم من تحقيق الغرض المرجو منه تجاه الأندلس وأهلها..
حصار واستسلام اشبيلية
وفي الوقت الذي اتحدت فيه مملكة قشتالة وأراجون في كيان واحد للقاء المسلمين، انقسم أهل الأندلس الى شقين، فحكم غرناطة وماحولها أبو عبد الله بن أبي الحسن النصري، وحكم وادي آش وما حولها عمه أبو عبد الله محمد بن سعد (المعروف بالزَّغل) وصار التناحر بينهما خنجرا مغروسا في ظهر الأندلس ينال منها غير ضربات الأسبان التي لا تهدأ ولا تعرف الرحمة!.. واختار ابو عبد الله ان يسالم القشتاليين ويستعين بهم على قتال عمه الزغل، فأعطاه الأسبان الأمان الى حين حتى انتهوا من امر عمه الزغل اولا ثم فرضوا حصارا على غرناطة انتهى بتسليمها في 1492م. وشاعت انباء الأندلس في كل بلاد العالم الأسلامي وحزن لها القاصي والداني، ويذكر ابن اياس المؤرخ المصري في حوادث سنة 886هـ (1481م) ما نصه:
(وفيه جاءت الأخبار من بلاد الغرب أن أبا عبد الله محمد بن الحسن بن علي بن سعد بن الأحمر قد ثار على ولده الغالب بالله صاحب غرناطة وملكها منه وجرت بينهما أمور يطول شرحها وآل الأمر بعد ذلك الى خروج الأندلس عن المسلمين وملكها الأفرنج والأمر لله في ذلك.. )
ويقول في حوادث سنة 890هـ (1485م):
(وفي رجب أتت الأخبار بوفاة ملك الأندلس صاحب غرناطة الغالب بالله ابو الحسن، فتوجه من بعده أبو عبد الله الى عمه الزغل يسأله أن يرسل له نجدة تعينه على قتال صاحب قشتالة، وأن الفتن هناك قائمة والأمر لله..)
وفي نوفمبر عام 1487م، وحسب رواية ابن اياس، وفدت الى القاهرة سفارة من بلاط غرناطة تطلب من سلطان مصر أنذاك الشرف قايتباي التدخل لأنقاذ الأندلس، يقول ابن اياس في حوادث عام 892هـ (1487م):
(وفي ذي القعدة جاء قاصد من عند ملك الغرب صاحب الأندلس، وعلى يده مكاتبه من مرسله تتضمن ان السلطان له تجريدة تعينه على قتال الفرنج، فإنهم قد أشرفوا على أخذ غرناطة وهو في المحاصرة معهم، فلما سمع السلطان ذلك اقتضى رأيه ان يبعث الى القسوس الذين بالقُمَامة (كنيسة القيامة) التي بالقدس بأن يرسلوا كتابا على يد قسيس من أعيانهم الى ملك الفرنج صاحب نابل (يقصد نابولي) بأن يكاتب صاحب اشبيلية بأن يحل عن اهل غرناطة ويرحل عنهم وإلا يشوش السلطان على اهل القمامة ويهدمها، فأرسلوا قاصدهم وعلى يده كتاب الى صاحب نابل كما أراد السلطان فلم يفد ذلك بشيء وملك الأفرنج غرناطة فيما بعد.. )
والمتأمل لتلك الرواية يلاحظ شيئا من التناقض، فواقع الأمر ان حصار غرناطة لم يبدأ الا في عام 1491م أي بعد التاريخ الذي ذكره ابن اياس بحوالي ثلاث سنوات!.. وفي هذا الوقت كان صاحب غرناطة ابو عبد الله يهادن الأسبان هدنة غادرة، فمن غير المعقول ان يستعين بغيرهم عليهم، في حين كانت جيوش الملك فيردناند في ذلك الوقت تتدفق في اراضي عمه الزغل في مالقا، والتي كانت ثغرا بحريا تأتي منها النجدات للمسلمين في الأندلس، فربما كان ابن اياس يقصد ملك وادي آش وليس غرناطة، والحصار المذكور كان حصار مالقا وليس غرناطة!.. والذي كان فعلا في نفس السنة، وقد سقطت لأن الزغل كان يخشى غدر ابن أخيه أكثر من خشيته من عدوه، فتركها حين فشل في الدفاع عنها وتمسك بأخر أملاكه في بسطة بوادي آش حتى قضى عليه الأسبان بعدها بزمن وجيز.
وعلى الرغم من التناحر فيما بينهما، تعاهد سلطانا مصر (الأشرف قايتباي) وتركيا (بايزيد الثاني) على الهدنة المؤقتة لنجدة الأندلس. ورغم بعد المسافة وضعا خطة مشتركة خلاصتها ان يرسل بايزيد اسطولا قويا لغزو جزيرة صقلية والتي كانت من املاك القشتاليين يومئذ، فينشغلوا عن اهل الأندلس، في حين يرسل قايتباي جيشا ينضم لجيش الحفصيين في تونس ويقطعوا الطريق البري ويعبرون من جبل طارق لنجدة اهل الأندلس، غير ان الظروف الداخلية وخوف كلا الملكين من بعضهما البعض كان أبعد من ان يسمح لهما بإتمام ذلك التحالف للنهاية، فانقاذ الأندلس لقي في قلوبهما تعاطفا لم يخرج مع الأسف لحيز التنفيذ!.. فقد كان قايتباي يخشى هجوم العثمانيين على دولته من ناحية الشمال متى هم بجيوشه أو بعضها نحو الأندلس، وذلك بعد ان مُنّيت جيوش العثمانيين بالهزيمة غير مرة أمام جيوش المماليك قبل اعوام قلائل في معركة أضنة 1488م (للمزيد طالع هنا).
ولكن على اية حال، فقد أوفد السلطان قايتباي العديد من السفارات الى بابا روما وملوك نابولي وفينيسيا، وقد أوكل سفراء مسيحيين من رهبان دير القديس فرنسيس في القدس، فأوفد القس انطونيو ميلان الى البابا اينوسنت الثامن، وأوفد أخرا الى فيردناندو الأول (دون فرانتي) ملك نابولي، وثالث الى الملك فيردناندو الثاني ملك أسبانيا نفسه. وفي تلك المكاتبات يعاتب السلطان قايتباي ملوك اوروبا على غزوهم لبلاد المسلمين في الأندلس والتنكيل بهم، في حين ينعم رعاياه من المسيحيين في الشام ومصر بالأمن والأمان ويتمتعون بالحريات أمنين على انفسهم وعقائدهم واموالهم وابناءهم. لذا فهو يطالب الجميع بالتدخل لدى ملك الأسبان بأن يرفع حصاره عن غرناطة، ويعيد لهم ماتم الأستيلاء عليه من املاكهم من مدن وقلاع وإلا اضطر الى اتباع نفس السياسة من البطش والتنكيل مع رعيته من المسيحيين بل وتخريب مقدساتهم في كنيسة القيامة وبيت لحم والناصرة ويمنع دخول النصارى الى سائر الأراضي المقدسة والتي كانت تحت حكمه آنذاك!..
معركة غرناطة 1431م
ووصل سفراء قايتباي الى اسبانيا في خريف عام 1489م، وكانت مالقا قد سقطت بالفعل في ايدي القشتاليين واستولوا ايضا على عدد من الحصون وبدأوا في محاصرة الزغل في بسطة، والتي قابل القس انطونيو ميلان (رسول السلطان قايتباي) الملك الأسباني فيردناند تحت اسوارها، ويتسلم فيردناند الرسالة ومعها رسائل اخرى من ملك نابولي والبابا يلوماه على حرب الأندلسيين وينصحاه بالكف عنها حتى لا يتعرض نصارى الشرق الى التنكيل، طبقا لما ذكره المؤرخ وليم بريسكوت في كتابه (تاريخ فيردناند وايزابيلا)!.. غير ان ملوك اسبانيا لم يرا في تهديد قايتباي لهما مايحملاهما على تغيير خطتهما خاصة في وقت كانت جيوشهما ظافرة، ولكنهما أجابا السلطان برد يحمل الكثير من الدبلوماسية والأدب، قالا انهما لا يستطيعا صبرا على استعادة ارض الأباء والأجداد (يقصدان الأندلس) من ايدي الأجانب (يقصدون العرب)، وانهما لن يفرقا في معاملة رعاياهما من المسلمين عن النصارى، فمن اراد البقاء في الأندلس تحت حكمهما اهلا به وسهلا، ومن اراد الرحيل فهو أمن على حياته وماله حتى يبلغ مراده، ويتعهدون امام الله والسلطان بان ذلك ماسوف يحدث لو ظفرا بالأندلس وتخلصا من الحكم العربي!.. وارسلا مع القسس الكثير من التحف والهدايا وسرية من الجنود الأسبان للحماية حتى بلغا مأمنهما من ثغور الأندلس.
فيرناندو الثاني وايزابيلا ملك أسبانيا
وبالنسبة لرسالة قايتباي الى الملك فيردناند فهي مازالت محفوظة الى الآن في محفوظات التاج الأراجوني في اسبانيا، أما رد الملك فيردناند فهو مع الأسف لا وجود له!.. ولكن في تاريخ ابن اياس اشارة الى وروده الى القاهرة، بدليل قوله (فلم يفد ذلك شيئا، ومَلَك الفرنج غرناطة فيما بعد..) ولكن المتتبع لسياق الحوادث التاريخية في تلك الفترة نجد ان السلطان قايتباي لم ينفذ تهديده من نحو الرعايا المسيحيين سواء في مصر أو القدس، وترك الأندلس تواجه قدرها بنفسها بعد ان فشلت المساعي الدبلوماسية.
وتكرر النداء مرة اخرى من مسلمي الأندلس في عهد السلطان قنصورة الغوري اخر سلاطين المماليك في مصر حينما استنجدوا به للتدخل لدى ملوك اسبانيا لإحترام معاهدة تسليم غرناطة والكف عن سياسة محاكم التفتيش المتبعة لإرغام مسلمي الأندلس على التنصير أو مغادرة البلاد!.. فأرسل السلطان الغوري مبعوثا الى ملوك اسبانيا يهددهما بارغام رعاياه النصارى على الدخول في الأسلام اذا لم تراعى الاتفاقيات السابقة بينهم وبين المسلمين، ورغم معارضة فقهاء المسلمين لذلك ألا ان ملوك اسبانيا ارسلا سفيرا ومعه بعض الرعايا المسلمين من اهل الأندلس لأقناع السلطان الغوري بأن المسلمين يعاملوا معاملة حسنة وأن لهم نفس الحقوق التي لغيرهم من المواطنين الأسبان وعليهم ايضا نفس الواجبات.
Jaume_I,_Cantigas_de_Santa_Maria,_s.XIII
وفي وقت لم يكن الغوري فيه يمتلك اسطولا قويا، بالإضافة الى ورود انباء باحتلال البرتغاليين لمضيق باب المندب في وجه الملاحة التجارية فيه (للمزيد طالع هنا) فلم يهتم الغوري بالرد او تحرّي حقيقة امر المسلمين في الأندلس والذين خابت امالهم في تلقي أي دعم او مدد من سلطان مصر او غيره، فهاجر اغلب مسلمي الأندلس الى شمال افريقيا ومن بقي منهم في اسبانيا فقد أجبر على اعتناق المسيحية أو التنكيل بلا رحمة في محاكم التفتيش الأسبانية المشهورة، فجاء مطلع القرن الثامن عشر ولا يوجد مسلم واحد في شبه الجزيرة الأيبيرية، بعد ان حكمها المسلمين زهاء ثمانية قرون.
مراجع:
  • محمد عبد الله عنان، مصر الأسلامية وتاريخ الخطط المصرية، الهيئة العامة للكتاب 1998
  • محمد عبد الله عنان، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، مكتبة الخانكي 1997
  • ابن اياس الحنفي، بدائع الزهور في وقائع الدهور ج4، الهيئة العامة للكتاب 2007
  • William Prescott, History of the reign of Ferdinand and Isabella,